أحمد محمد عوض*
من أوجه التناقض بين خطاب صندوق النقد الدولي كإحدى أكثر المؤسسات المالية الدولية تأثيرا على مسارات الاقتصاد العالمي، وممارساته على أرض الواقع، تظهر مسألة “الشرطية” (Conditionality) التي يمارسها الصندوق على الدول التي ترتبط معه ببرامج “إصلاح” مالي بمختلف مسمياتها.
ويقصد بـ”الشرطية”، درجة تدخل الصندوق في الضغط على الحكومات لتطبيق التدابير والإجراءات التي التزمت فيها الدول في نص الاتفاقيات، وفي هذا السياق لا ينكر “الصندوق” ممارسته للشرطية، ويفرد لها وثيقة يطلق عليها “المبادئ التوجيهية للشرطية”، تتضمن الأسس والمبادئ التي يعتمدها في عملية التطبيق، ويبرر ذلك أن ممارسة الشرطية تؤدي الى نجاح تطبيق السياسات المدعومة من “الصندوق” والمرتبطة بحصول الدولة على قروض ميسرة، وأعلن “الصندوق” قبل سنوات عدة أنه قام بتبسيط الشرطية المصاحبة لبرامجه، في إطار مراجعاته الدائمة للمبادئ التوجيهية لها.
وعلى خلاف عمليات تبسيط الشرطية التي يشير اليها “الصندوق”، فإن ما جرى في الأردن خلال الأشهر القليلة الماضية يعد حالة دراسية نموذجية على المستويات العالية من “الشرطية” التي يمارسها “الصندوق” مع الدول والحكومات التي ترتبط معه باتفاقيات وبرامج “إصلاح” مالي، وقيامه بعدم تحرير الدفعات المالية من القروض حتى تنفيذ هذه الشروط.
وكان المتوقع أن تتعامل إدارة “الصندوق” بمزيد من المرونة في ممارسته للشرطية على الأردن، آخذا بعين الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية الاستثنائية التي يمر فيها الأردن؛ إذ لم يعد قادرا على تطبيق الإجراءات والتدابير الاقتصادية غير العادلة خاصة فيما يتعلق بالسياسات الضريبية؛ حيث كان السبب الرئيسي الذي دفع الناس للخروج الى الشارع قبل أشهر عدة الإجراءات والتدابير التي وافق عليها الصندوق في إطار اتفاقياته مع الأردن.
وعلى خلاف المتوقع، شاهدنا ممارسات عالية من الشرطية على الأردن؛ حيث أعلن أكثر من مسؤول حكومي رفيع المستوى في الحكومتين السابقة والحالية -رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الوزراء الحالي- عن ضغوط يمارسها “الصندوق” على الأردن لتمرير التعديلات المقترحة على قانون ضريبة الدخل.
مجمل ذلك يأتي وخبراء “الصندوق” يعلمون أن التعديلات المقترحة تتضمن ظلما اجتماعيا كبيرا للطبقة الوسطى، وأنه ليس تصاعديا بما فيه الكفاية -حسب بعض الحوارات التي أجريتها شخصيا مع العديد منهم في أكثر من مناسبة، كان آخرها الاجتماعات السنوية التي جرت في جزيرة بالي الاندونيسية قبل أيام- ويقرون أن مجمل النظام الضريبي في الأردن الذي تم تطويره تحت إشرافهم يعد نظاما غير عادل.
ولم تقف حدود الضغوط التي يمارسها “الصندوق” على الحكومة الأردنية لإجبارها على تطبيق سياسات اقتصادية من شأنها تهديد الأمن والاستقرار الاجتماعي -والاجتماعي فقط، بل وصلت الى مستويات عالية بالطلب من الحكومة “ضمان” تمرير القانون المعدل من البرلمان؛ أي الضغط على البرلمان لتمريره -حسب تصريحات مهندس القانون نائب رئيس الوزراء- وفي ذلك تهديد للاستقرار السياسي في الأردن، ومن المفيد في هذا السياق الإشارة الى أن “الصندوق” لم ينفِ ممارسته لهذه الضغوط.
مجمل ذلك، يوضح مرة أخرى أن الفجوة الكبيرة، بين ما يفصح عنه صندوق النقد الدولي من معايير ومبادئ لتنظيم عمله وعلاقته مع الدول المرتبطة معه باتفاقيات إعادة هيكلة لسياساتها المالية، وبين ممارساته على أرض الواقع. الأمر الذي يتطلب إعادة نظر شاملة بمختلف المبادئ والمعايير التي تنظم العلاقة بينه وبين الدول، وتغيير نهجه في التعامل مع المشكلات الاقتصادية التي تواجه العديد من الدول، والانتقال من النهج المحاسبي الحالي الى النهج التنموي الذي يأخذ بعين الاعتبار انعكاس سياساته على المستويات المعيشية للناس.
*مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية
صحيفة الغد الأردنية، 2018/10/22